مشهدٌ مذهلٌ ومخيف
توجّهتُ إلى إحدى الإذاعات المحلية، "صوت لبنان العربي"، وما أكثرها آنذاك. طلبتُ توجيه نداء إلى َمن لديه شخصٌ مخطوف للحضور الى لقاء تعارفي للأهالي. حددّتُ المكان والزمان، أمام جامع "عبد الناصر" في كورنيش المزرعة، وذلك بما يتناسب مع مكان ودوام عملي المهني في ثانوية "فخر الدين الرسمية" في منطقة "برج أبي حيدر".. أمنيتي المُضمرة هي أن تكون السيدة أو السيدتان اللتان ستلبيان النداء أكثر طولاً مني وأكبر حجماً ، أن يكون "عليهما القيمة والقدر" لإضفاء بعض جدّية ووقار ظناً مني أن قامتي الصغيرة لم تكن توفرهما.
ما إن دقّ جرس استراحة الساعة العاشرة، كان نهاية دوامي ذلك النهار، حتى سارعتُ إلى ضبضبة أوراقي، تأبطتُ محفظتي وهرولتُ نزولاً باتجاه كورنيش المزرعة والحماس يملأني لملاقاة السيدتين المرجوّتين.
كان المشهد مذهلاً، مخيفاً... السيدتان المتوقع حضورهما ولـ أقل ثلاثة، أربعة..صرن مئات يصاحبهن عدد من الأولاد والأطفال. امتلأت ساحة اللقاء. المكان يعجّ بزوار لا يعرفون بعضهم. تُرى، هل لبّت أولئك النسوة النداء وأتيْنَ رغبةً بالتعارف ؟ بالتأكيد لا، فالزمن ليس بزمن اجتماعيات وترفيه، ولا الشارع يسمح بذلك.. لقد جئن للتعريف عما حلّ بهن من مِحن..
بدأ التعارف تلقائياً ومن دون مقدمات عبر شروع كل واحدة برواية مصيبتها. واحدة أخذ المسلحون زوجها من السرير بالبيجاما، لم يمهلوه لتبديلها، أخرى جرى اعتقال ابنها البكر بعد أن صادروا منه ربطة خبز وُفّق، بعد جهد، بشرائها لإخوة جائعين، ثالثة فقدتْ ثلاثة من أبنائها وزوجها...
وجدتُني، لبرهة، متجمّدة الحواس والإحساس أمام هذا المشهد السوريالي.. مأخوذة أسأل نفسي "هل يعقل أن يقع كل هذا الظلم، ودفعةً واحدةً على كل هؤلاء الناس..؟" أفكار متناقضة في رأسي تتجاذبني..
لكن ضجيج النسوة وآهاتهن أعادوني إلى وعيي، وتسارعت في رأسي التساؤلات "طيّب ماذا بعد؟ يجب أن نعمل شيئاً، أكيد، بسّ شو؟ لازم أعرف، لازم اخترع ، أو لستُ أنا من استدعاهم للمجيئ؟ صحيح أن العدد فاق تصورّي وخطتّي المرسومة، لكن ذلك يجب أن يشكّل دافعاً أقوى للتحرك لا رادعاً!!
ساعدني صوتي العالي على مخاطبة الجمع (الأرجح أني ورثته عن أمي أوامتلكته لاحقاً بحكم مهنتي في التعليم الرسمي وربما العاملَين معاً). رجوتُ النسوة الكفّ عن البكاء والنحيب، اقترحتُ عليهن أن نشّد هممنا ونتوجه لمقابلة رئيس الحكومة. أذكر أن خياري للرئيس يعود إلى عامل الجغرافيا، إذ أن السراي الحكومي كانت تقع يومذاك في المنطقة الغربية لبيروت مقابل حديقة الصنائع، بمعنى أن الوصول إليها لا يحمل مخاطر لاجتياز معابر الخطف والموت الفاصلة بين البيروتين فالبلدين (صار تقسيم المناطق الى شرقية وغربية على مستوى لبنان لاحقاً وليس على مستوى العاصمة فقط).