معركة غير متوقعة
ما إن اقتربنا من مبنى تلفزيون لبنان (كان يُعرف بالقناة 7) حتى فوجئنا بمجموعة من عناصر الجيش النظامي تتقدّم صوبنا بشكل هجومي. كان الجنود بكامل الجهوزية والعدّة. كأنهم في وضعية قتالية تتأهب لمواجهة عدو حقيقي وقوّي، سرعان ما تبيّنا أن هذا العدو هو نحن..
أمرونا بلهجة حاسمة لا تخلو من التعالي، بالتفرّق الفوري والعودة إلى بيوتنا.. لم ننصع للأمر، لم يتوقف البكاء ولا السباب، أصرّينا على متابعة السير. هجموا علينا واختلطوا بجموع النساء ينهرنهم، يضربنهم بأعقاب البنادق.. وبدأ الكر والفر..
المعركة حامية بين الطرفين لكن بميزان قوى غير متكافئ.. استشرستْ النسوة جسدياً وبرشقات من الشتائم من كل العيارات.. مواجهتهن كانت مدهشة، بلحظة تبدّلت أحوالهن وهيئاتهن، بدَوْنَ بقوة استثنائية عكس ما كنّ عليه من ضعف وحزن وانكسار في بداية التجمّع.. لم أجد تفسيراً لهذا التحوّل النوعي المفاجئ غير ذلك الشعور الذي أحسسته وعشته اثر اختطاف حبيبي، فأي خسارة أخرى قد تقع لن تكون أفدح وأقسى من خسارة شخص عزيز.. فمِما ومِمَن أخشى وتخشين بعد الآن..!؟
لا أنسى ذلك المشهد وقد بدا المهاجمون كأنهم فوجئوا بردة فعلنا القوية. تماماً كما فوجئنا نحن بتصرفاتهم العنيفة، بأدائهم العدائي اتجاهنا، المستخفّ بآلامنا.. كانوا كمَن لم يتوقّع أن يتجرأَ أحدٌ على مخالفة أمر عسكري في زمن عسكري بامتياز.. فكيف إذا كان هذا الـ"أحد" جمهرة من النساء والأطفال..!؟ يبدو أن هذا ما زاد من درجة استفزازهم ، فكأني بهم وقد انتفضتْ ذكوريتهم ، مضافاً إليها مخالفة أمر المهمة المنوطة بهم بمنع وقمع كل تجمع في الشارع وكل ما يفرضه قانون الطوارئ المفروض على البلاد..
الأرجح أنه كان يتردد في زلعوم كل واحد منهم " لا يكفي أنهن نساء، بل نساء شارع خارجات على القانون..".!
هزأت النسوة بكلام وتصرفات الجنود، بحالة الطوارئ وبقانونها. كأني بهن يستنكرن متسائلات "أي قانون هذا يتشدّقون به لا يقدر على حماية أولادنا من الخطف.. بأي قانون، بأي منطق يمنعوننا من المطالبة بإعادتهم إلينا سالمين.!!؟ هل من حالة طارئة أشدّ من حالتنا..؟!
يا ليت ذلك القانون تجرّأ على إقطاعيات السلاح والمسلحين، صادر أسلحتهم، اعتقلهم، وحرّر مَن نبحثَ عنهم من سراديب هؤلاء المجرمين النتنة مثلهم..!!
فجأة التفت، تبيّنت عدد الكاميرات التي سرعان ما ملأت الميدان، حينها كان كل شيء جديداً بالنسبة لي، فلم أدر كيف عرف أصحابها بما يدور، بأي سرعة حضروا ومن أين أتوا..! ربما الجواب صار معروفاً اليوم، فقد اعتُبر ما قمنا به، بكل عفويته وصدقيته، حدثاً مميزاً. حدثٌ كسر روتين شريط الأحداث اليومية بالرغم من غزارتها آنذاك، ولو لم تكن قد درجت بعد موضة "الخبر العاجل"..